حوار مع توفيق الجبالي: “أرَى في النّشاز والمُهمَل جوهرًا إنسانيًا”
حوار مع توفيق الجبالي: “أرَى في النّشاز والمُهمَل جوهرًا إنسانيًا”

يَبدو أنّ توفيق الجبالي ينطلق “بلا سأم” من لحظة صمت أو ينتهي إليها، سواء في تمثيله أو في فيمَا يقترحه من مسرح. لحظة مُهيبة جليلة، كأنّها بَدء الخلق أو بَدء السؤال عن المفارقات التّي تَجعل من الإنسان التونسي، ومن الإنسان عموما، معضلة مستعصية على الحلّ، إلاّ في الزمن الذّي يستغرقه مسرحه الذّي يجعلك تكتشف شيئا لم تكُن تعرف أنّك تبحث عنه، أو أنّك أضعته وتُهتَ عنه.
يُحبّ “النشاز” ويبحث في “المهملات” عن “التوتّرات الحيّة”. بإمكانه أن يتحدّث عن الشرط الإنساني، بألسنةٍ سبعٍ ساخرا جادّا، واضحا، ملتبسا، مارقا، وعارفا يَمتلك حكمة المسرح، حتّى أنّ بإمكانه أن يشتغل دراماتورجيّا على كلّ شيء، بدءً من قمامة مطبخ تونسي: كما في مسرحيّة “التابعة”، كاستعارة عن ابتذال إنسان العصر. و انتهاءً بالضوء الآتي من قرارة الكون: كَمَا في مسرحيّة “المجنون”، كتحريض على الاقتراب من الضوء الأبهى والدخول في مقام الصمت؛ الصمت الجليل الذّي يحرّرنا من القسوة ومن تفكّك المعنى ومن الابتذال لنطلّ على المعنى الحَرام.
هنا تُحاور المفكرة توفيق الجبالي الذي أنشأ حالة جمالية، هي نسيج وحدها في المسرح العربي، سواء اشتغل على نصوص كبرى مُحاورا برشت وخليل جبران وشكسبير وجون جنيه، أو أنشأ نصّه المسرحي الخاص وذهب عميقا في التجريب كما في مسرحيّة “فْهِمتَلاَّ”، بحثًا عن رحيق تجربة حياة منذورة للمسرح، تقاطعت مع قامات ومنعطفات تونسية وعربيّة (لنذكر مثلا أنّ الكثير من تسجيلات الشيخ إمام عيسى المتداولة سجّلها الجبالي). هذا الحوار محاولة لنفهم أكثر ما الممثّل؟ وما الدراما؟ وما الحياة؟ وما الذّي يجعلنا أقلّ يأسا وأكثر جدارة بمعنى ما أو جمال ما علّنا نُمسِك بالجوهر.
المفكرة القانونية: كانَ يُمكن أن تكون سينمائيا أو كاتبا، ما الذي قادك إلى “لوثة” المسرح ؟
توفيق الجبالي: لا هذا ولا ذاك، وفي الوقت نفسه المسرح يمنحني الفرصة لأكون كلّ ذلك: السينما والصورة والشّعر. بل هل يُمكن للمسرح أن يكون غير ذلك؟ لقد كتَبت للسينما، ونشَرت القصص والشعر، واشتغلت إذاعيًّا وصحفيًّا ومُعلّقًا. وحتى في الموسيقى وجدتُ نفسي عازف إيقاع في العديد من المجموعات الشبابية الهاوية. وكم تمنّيت أن أكون عازفًا في فرقة جاز! المسرح يأتي كمساحة حرّة أستطيع من خلالها أن أفاجئ وأتفاجأ. إنه عالم لا يتوقّف عند حدود، بل يسمح لي بالتحوّل والحركة الدائمة، حيث أجد نفسي وأفقدها في آن واحد، وأعيش كل تلك الأدوار التي عشتها من قبل، ولكن بشكل جديد ومختلف.
المسرح هو المكان الذي يجمع كل أجزائي: الكاتب، الشاعر، الموسيقي، والمبدع الذي لا يتوقّف عن الهدم والتكوين.
المفكرة: تتحدّث في كتابكعن اكتشافك لسحر المسرح وبداية ولعك به في ثلاث مناسبات تسميّها ثلاث “إصابات”، بعد أن شاهدت وأنت طفل سيرك عمّار، ثم علي بن عياد، ثم مسرحيّة فرنسية. من ضمن معاني “أصاب” في القواميس: أصاب المفقود ونحوَه: وجده ولقيه. أصاب الرزقَ ونحوَه: أدركه وناله. أصاب القومَ: فجعهم. أصاب المرأة: جامعها…أيّها تَعني؟
الجبالي: “الإصابة بالمَسرح” تُشبه ذلك اللقاء الممنوع: لقاءٌ يَمتزج فيه الوجد بالشذوذ. فهو ليس مجرّد عثورٍ على شيءٍ مفقود، بل هو اكتشافٌ لشيءٍ لم تكن تعرف أنّك تبحث عنه. المسرح يصيبك كما يصيب الحبُّ الغافلَ: يجدك حيث لا تتوقّع، ويأخذك إلى حيث لا تعرف. هنا، في هذا الفضاء، تصبح “الإصابة” فعلًا مزدوجًا: هي وجدٌ لأنك تلتقي بجزءٍ منك كان غائبًا، وشذوذٌ لأنّك تخرج عن المألوف لتكتشف عالمًا آخر. المسرح يصيبك بالجنون الجميل، ذلك الجنون الذي يجعل منك شخصًا آخر، أو ربّما يجعل منك نفسك الحقيقيّة لأوّل مرّة.
وهكذا، تكون “الإصابة” بالمسرح هي تلك اللحظة التي تلتقي فيها بذاتك، لا كما هي، بل كما يمكن أن تكون: حرّة، شاذة عن المألوف، ومليئة بالوجد الذي لا يُوصف.
المُفكرة: المسرح “فضاء فارغ”، أين تجده؟ وبما تملؤه؟ وإذا ما عُدنا إلى الكتاب تقول أنّ المسرح “مسلك الروح والعدم”، كيف؟
الجبالي: المسرح هو ذلك الفضاء الفارغ الذّي أجده في كلّ مكان: في الشارع، في الغرفة، في الذاكرة، وحتى في الفراغ نفسه. هو ليس مكانًا مادّيًا بقدر ما هو حالةٌ وجوديّة. أملؤه بالحكايات التي لم تُروَ بعد، بالأصوات التي لم تُسمَع، وبالأجساد التي تبحث عن معنى. المسرح هو المرآة التي تعكس ما نحمله في داخلنا، وما نخشى أن نعترف به.
عندما أقول إنّ المسرح “مسلك الروح والعدم”، فأنا أعني أنه المكان الذي تلتقي فيه الحياة بالموت، والوجود بالفراغ. المسرح هو ذلك الفضاء الذي تتحرّر فيه الروح من قيود الجسد، وتسبح في عالم من الاحتمالات اللامتناهية. هو العدم الذي يسبق الخلق، والفوضى التي تسبق النظام. في المسرح نجد أنفسنا أمام الفراغ، ونملؤه بمخاوفنا، وحتّى بأشباحنا.
المفكرة: من هو الممثّل؟ كيف تتعامل معه كمخرج: جسد، مُهجَة، صوت، تَصوّرات عن العالم وعن النفس؟ وما الشخصيّة؟ كيف تَبنيها أو تَتَقمّصها كممثّل؟
الجبالي: الممثّل كائن مُستقلّ بذاته، يَحمل أهدافه، هواجسه، وحُرمَته الجسديّة والنفسيّة، وليسَ مُجرّد أداة طيّعة. أتعامل معه من خلال الجسد، المهجة، الصوت، وتصوّراته عن العالم، محاولًا خلق بيئة آمنة تَسمَح له بالغوص في أعماق الشخصية.
الشخصيّة هنا ليست كيانًا اجتماعيًا أو نفسيًا؛ فأنا لا أتقاسم هذا المنحى وأرفض مفردات مثل التقمّص وبناء الشخصية، بل هي كائن ذهني متخيّل، تحمل رموزها ودلالاتها الخاصة. هي وليدة المشروع المسرحي، تعيش في عالمٍ من الخيال، حيث تتجاوز الواقع لتكون تجسيدًا لفكرة أو رمز.
كَمخرج أتعامل معها ككيانٍ مجرّد، لا يُقيّده سياقٌ خارجي، بل يُبنَى من خلال تفاعل الممثّل مع أهداف العمل حيث يكتشف حركتها، صوتها، وروحها الخاصة. الشخصيّة المسرحيّة هي انعكاسٌ لأسئِلة وجوديّة أو فكريّة، وليست مرآةً للواقع. صاحب العمل يبدأ بتقديم الإطار الرمزي، لكنّه يختفي ليسمح للممثّل بأن يُحيي هذه الكائنات الذهنية، فيصبح المسرح فضاءً للخيال المحض، حيث تتحوّل الكلمات إلى رموزٍ حيّة.
المفكرة: كيف تبدأ المسرحيّة وتنتهي عندك؟ هل تبدأ من فكرة ؟ من إحساس؟ من صورة؟ ما الذّي يلهمك ويهمّك؟
الجبالي: المَسرحيّة عندي لا تبدأ بنقطة واحدة محدّدة، بل هي تراكمات تمتدّ لسنوات: فكرة عابرة، إحساس غامض، صورة مبهمة، أو حتى كلمة تتردّد في الذهن. كلّ هذه العناصر تظلّ كامنة، تتفاعل في الخلفيّة، حتى تأتي اللحظة الجريئة التي أقرّر فيها القفز إلى التهلكة حيث تكتمل عناصر المغامرة.
ما يُلهِمني ويهمّني هو ذلك الخليط من النصوص المتناثرة، الصور العابرة، التصوّرات المتعدّدة، والمشاعر التي تتراكم كطبقاتٍ في الذاكرة. هذه العناصر لا تأتي دفعة واحدة، بل تتحوّل وتتشكّل على مراحل، حتى تصل إلى تناغمٍ ما. المسرحيّة تبدأ كبذرة غامضة، ثم تنمو تدريجيًا، حتى تصير كيانًا متكاملًا له روحه الخاصة. النهاية تأتي عندما أشعر أنّ العمل قد وجد توازنه، وأنّ كلّ العناصر قد التقت في لحظةٍ واحدة، كأنّها أجزاءٌ من لوحةٍ أخيرة تكشف عن نفسها فجأة.
المسرحيّة، إذن، هي رحلةٌ من التراكم إلى الجرأة، ومن الفوضى إلى التناغم.
المفكرة: كيف تعمل على الدراماتورجيا؛ “لغة الاحتمالات التي تنتظر من يجرؤ” كما تقول عنها في الكتاب، أنت المسرحي التونسي الذّي يعرف أنّ هناك مسافة بين الأنجليزي بيتر بروك والتونسي عبد القادر مقداد؟
الجبالي: بالطبع، هُناك مسافة شاسعة بين مسرح بيتر بروك -حتى لا نذكر سواه- القادم من ثقافة أخرى بتراكمَاتها التاريخيّة والفنيّة التي تشكّلت على مرّ العصور، وبين مسرحٍ تونسي أو عربي، سواء كان لعبد القادر مقداد أو غيره. هذه المسافة ليست عائقًا، بل هي فضاءٌ خصبٌ للإبداع، شرط أن نتعامل معها بوعيٍ وثقة.
من الخطأ أن نَعتبرَ المرجعيّات العالمية الرؤية الوحيدة المحرّكة للإبداع، أو أن ننساقَ وراء تقليدها دون تمحيص. هذا النهج يُكبِّل الكثير من المسرحيين العرب، الذين يعانون من التبعيّة الفكريّة، فتبقى أعمالهم وفضاءاتهم باهتة، بلا روح، كتلاميذ غير نجباء. المسرح، في جوهره، يجب أن ينتمي إلى المخزون الحِسّي والمعنوي للفنّان، إلى هويّته الثقافيّة وخبرته الذاتيّة.
إذن، الدراماتورجيا هي عمليّة بحثٍ مستمرّة عن هذا التوازن الدقيق. هي محاولة لخلق لغةٍ مسرحيّةٍ خاصة، تنهل من التراث المحلي دون أن تنغلق عليه، وتستلهم من التجارب العالمية دون أن تفقد ذاتيتها. هي الجسر الذي يربط بين الذاتي والكوني، بين المحلي والعالمي، في رحلةٍ إبداعيةٍ لا تنتهي.
المفكرة: أنت تنقلب عن نفسك دائما وتتجاوزها إلى خطاب جمالي جديد. ما الذي يدفعك إلى التجريب؟ وأيّ مطلق مسرحي أو جمالي تبحث عنه؟
الجبالي: الفنّ في جوهره لعبةٌ خطرة غير مضمونة النتائج. هو ممارسةٌ تعتمد على المغامرة، على الرهان بما نملك وما لا نملك، بحثًا عن لحظةٍ من الجمال أو الحقيقة. عندما يغيب هذا العنصر المجازف، يصبح الفن بلا قيمة، بلا روح. بخاصةً في مجتمعٍ تكون آفاق انتظاره من الفنّ محدودة، منحصرةً في احتياجات ترفيهية أو اجتماعية سطحيّة، دون طموحٍ لتَجاوز المألوف أو طرح الأسئلة الكبرى.ف
في مثل هذا السياق، يصبح من الأوجب على الفنّان أن يَخرج عن هذا الطلب الضيّق، أن يرفض أن يكون مجرد مُلبٍّ لرغبات الجمهور أو السلطة لا سيما أن بيئتنا الاجتماعية والمؤسساتية لا تُوفّر لا جاهًا ولا مالًا للفنان. هذا الواقع، رغم قسوته، يُسهّل عملية التغلب على اجترار المعتاد، و يُحرّر الفنّان من التبعيّة لشروط السوق أو توقّعات الجمهور. عندما لا يكون هناك ما نخسره نُصبح أكثر جرأةً في تجريب أشكالٍ جديدة، في خوض مغامراتٍ إبداعيةٍ قد تقودنا إلى اكتشافاتٍ غير متوقّعة.
المفكرة: في مسرحيّة “التابعة” في نفس الوقت الذي تقول فيه باستحالة الكتابة عن عالمنا اليوم، عالم ما بعد غزة، تنجح في صناعة خطاب جمالي يرسم الابتذال اليومي لإنسان بلا خصال في عالم متفكّك، ويسمو به كي يرتقي ويتسامى. المسرحيّة تقول ربّما أنّ إنسان العصر قد انحدر أكثر في الابتذال، وجاوز “العبث” إلى ما هو أخطر. كيف تصف إنسان العصر (قلت لي عندما ذهبت لتهنئتك بعد عرض التابعة كلّنا متوّرطون”)؟ وأمام اهتراء الخطابات الكبرى أين نجد السموّ أو الخلاص؟
الجبالي: في “التابعة”، أحَاول أن أقول إنّ الكتابة عن عالمنا اليوم، عالم ما بعد غزة وما بعد كل هذه الكوارث، تبدو مستحيلة. لكن في نفس الوقت أرى أنّ الفن يُمكنه أن يصنع خطابًا جماليًا يرسم الابتذال اليومي لإنسانٍ بلا خصال في عالمٍ متفكك، ويسمو به ليُحاول الارتقاء والتسامي. المسرحيّة تقول إن إنسان العصر قد انحدر أكثر في الابتذال، وتجاوز “العبث” إلى ما هو أخطر: إلى اللامبالاة، إلى التواطؤ، إلى فقدان القدرة حتى على الصدمة.
عندما قلتُ لك: “كلنا متورطون”، كنتُ أعني أننا جميعًا جزء من هذا الانهيار. إنسان العصر لم يَعد مجرّد ضحيّة أو شاهد، بل أصبح مشاركًا في صناعة هذا الابتذال. نحن نعيش في عالمٍ تتداخل فيه الأدوار، حيث الخط الفاصل بين الجلاد والضحيّة لم يعد واضحًا. نحن نستهلك، نتواطأ، ونستسلم، حتى عندما نظن أنّنا نقاوم.
أمام هذا الاهتراء للخطابات الكبرى الدينية، السياسية، الفلسفية، أين نجد السّموّ أو الخلاص؟ ربما يكون الفنّ هو الملاذ الأخير. ليس الفنّ كخطابٍ جاهز، بل كفضاءٍ للتساؤل، للبحث عن الذات في وسط هذا الخراب. الفنّ لا يُقدّم إجابات، بل يطرح أسئلةً تدفعنا إلى مواجهة أنفسنا، إلى الاعتراف بتورّطنا، وإلى محاولة الارتقاء فوق هذا الابتذال.
الخلاص، إذن، ليس في الوصول إلى حالةٍ مثاليّة، بل في المحاولة المستمرّة للارتقاء، في الإصرار على طرح الأسئلة حتى عندما نعرف أن الإجابات قد تكون مستحيلة. الفنّ هو ما يذكّرنا بأننا، رغم كل شيء، ما زلنا قادرين على أن نكون أكثر ممّا نحن عليه.
المفكرة: ما الدراما وما بعدها؟
الجبالي: “الدراما وما بعدها” ليست تسميةً من اختراعي، ولا أعتبر نفسي جزءًا من أيٍّ من هذه التصنيفات. أنا ببساطة داخل اللعبة، أعيشها وأمَارسها، وأترك مهمّة التعليب والتسمية لأهل الاختصاص. بالنسبة لي، الفنّ ليس تصنيفًا أو مدرسةً محدّدة، بل هو عمليّة بحثٍ مستمرّة، محاولةٌ لفهم العالم والتعبير عنه بطرقٍ جديدة.
الدراما، في جوهرها، هي فنّ الصراع والتحوّل، لكن “ما بعدها” يفتح الباب أمام احتمالاتٍ لا تنتهي. قد تكون هذه الاحتمالات كسرًا للتقاليد، تجريبًا مع الأشكال، أو حتى تدميرًا للحدود بين الفنون. قد يكون ما أقوم به منسجما مع هذه الرؤيا التي تعود للستينات وهذا يطمئنني، ولكن أنا لا أهتم كثيرًا بالتصنيفات.
المفكرة: ما الحياة؟ ما الموت؟ ما الحبّ؟
الجبالي: الحياة والموت والحبّ هي أجزاء من نفس اللغز الوجودي. نحن نعيش لنحبّ، ونحبّ لنعيش، وكلاهما يقودنا إلى مواجهة الموت، ليس كعدوّ، بل كجزءٍ من رحلتنا. الفنّ، بالنسبة لي، هو محاولةٌ لفهم هذا اللغز، والتعبير عنه بكلّ ما يحمله من غموضٍ وجمال.
المفكرة: أيّة كلمات مفاهيم قد تصف تجربتك؟ مفارقة؟ معضلة؟ سخريّة ؟ قطيعة؟ مسابقة الذات وتجاوزها؟ القول الثقيل مع الخفّة. يقول هانس تيز ليمان “أنّ المسرح هو مكان للأجساد الثقيلة”، ويقول القرآن” إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا”، وفي مسرحك ثمّة قول ثقيل عن الإنسان وعن القيم في قالب مستساغ، قالت لي مرّة صديقة أجنبية بعد مشاهدة مسرحية “كلام الليل، صفر فاصل” إنّك تتحدّث عن التونسيين بقوّة وفي نفس الوقت الذي تتحّدث فيه عن أوجاعهم الكبرى تطهّرهم بالسخرية وتبرؤهم؟
الجبالي: ليس لي أسلوبٌ خاصٌ أنتمي إليه، ولا أبحث عن واحد. أنا أطرق جميع الأبواب بحريّةٍ ودون تعالٍ، لأنّ كل مدخلٍ هو متاحٌ ما دام يكون دليلًا على صدق اللحظة التي ينشأ فيها. قد أكون المتأمّل، المنسلخ، العاق، أو الساخر، حسب ما تُمليه عليّ لحظة الخلق. المحصّلة النهائية هي التي تُنبئني عن الغاية، في تشابكٍ أحيانًا بين الملموس والمحسوس.
أتعامل مع النشاز والمهملات، تلك الأصوات والأشياء التي تُهمَل في الحياة اليوميّة، لأجعلها جزءًا من خطابي الفني. النشاز هو ما يكسر التوقّعات، والمهملات هي ما نعتبره غير ذي قيمة، لكنّي أرى فيهما جوهرًا إنسانيًا يمكن أن يلمع إذا نظرنا إليه بعينٍ مختلفة.
هموم التونسيين هي محامل للحظتي الطارئة وليست هدفا. والسخرية، بهذا المعنى، هي أكثر من مجرّد أسلوبٍ فني؛ إنها رؤيةٌ للعالم، طريقةٌ لمواجهة التعقيدات الإنسانية والاجتماعية بعينٍ ناقدةٍ ولكنّها مليئةٌ بالتعاطف. اللغة هنا وتفكيك مفاصلها ليست غاية بل مختبرا.
المفكرة: ثمّة شيء ما إنساني ، شيء ما كوني يسائل الإنسان في المطلق انطلاقا من تونس ويجعل من الفلسطيني رمزا ونموذجا. من هو الفلسطيني في مسرحك؟
الجبالي: الفَلسطيني في مسرحي هو صوت الإنسانية المقهورة، ومرآة الظلم الكوني. يُمثّل السؤال الأخلاقي الذي يطرح نفسه على كل إنسان: كيف نسمح بحدوث هذا؟ وكيف نتعايش مع هذا الظلم دون أن نتحرّك؟ إنه الذاكرة الحيّة للتاريخ المنسي، والصرخة التي توقظ الضمائر النائمة. يكشف تناقضات العالم ويظهر كيف يمكن للإنسانية أن تتنكّر لقيمها تحت مسميّات السياسة والإيديولوجيا والتناحر المذهبي.
هو الرمز الذي يدفعنا إلى إعادة التفكير في إنسانيتنا، ويثير التساؤل: أين نحن من كل هذا الألم؟ وأين نحن من هذا الصمود؟ إنه القصّة التي لا تنتهي، لأنها قصّة كلّ من عانى وظُلِم وصَمد.
المفكرة: هل أنّ المسرح ممكن ما بعد غزّة؟ وأيّ خطاب جمالي بقدرته أن يقول هذا الهول العظيم؟
الجبالي: في غزّة، نَرى كيف يَتحوّل الألم إلى فنّ، وكيف تتحوّل المعاناة إلى إبداع. الفنّانون الفلسطينيون، سواء عبر الرسم، الشعر، الموسيقى، أو السينما، يستخدمون فنّهم كسلاح مقاومة، كوسيلة لتوثيق الرواية الفلسطينية، وكطريقة للحفاظ على الإنسانية في وجه القسوة.
الفن في غزة ليس ترفًا، بل هو ضرورة. هو وسيلة للتعبير عن الألم، ولكنّه أيضًا وسيلة لزرع الأمل. عندما يَرسم طفل على حطام منزله، أو عندما تغنّي أمٌ على أنقاض بيتها، فإنهم يقولون للعالم: “نحن هنا، ولن نختفي”. الفنّ يصبح شهادة على الحياة، على أنّ الروح الإنسانية قادرة على النهوض حتى من تحت الركام.
المفكرة: نسألك وأنت من يحمل حساسيّة خاصة وفرادة جماليّة في اللغة المحكيّة للتونسيين، الذين انتبهوا منذ أن انفتحوا على مسرحك، في كلام الليل مثلا، أنّ لهجتهم لها كمالها وتعبيريتها وبيانها وشعريّتها: ماذا يحدث معها الآن في الدراما، وفي الإعلانات وفي الشارع؟
الجبالي: في الحديث عن اللغة، لا يَسعني إلا أن أستحضرَ مقولة سقراط: “تكلّم حتى أراك”. هذه العبارة ليست مجرّد دعوة للنطق، بل فلسفة كاملة تعكس فكرة أنّ الكلام هو مرآة الفكر، وأنّ الإنسان يُعرَف من خلال مَنطقه وأسلوب تعبيره. فالكلمات ليست مجرّد أصوات، بل انعكاس مُباشر للعقل والروح، ومن خلالها نكشف مستوى وعينا ونوعيّة قيمنا. لكن اليوم، عندما أستمع إلى اللغة المتداولة بين الناس، لا أرى إلا فوضى وتشويهًا مقصودًا أو غير مقصود فمن المسؤول عن هذا الخراب اللغوي؟
الجميع متورّط: الإعلام، المؤسسات الثقافية، النظام التعليمي، وحتى الأفراد الذين استسلموا لهذه الرداءة دون مقاومة. اللهجة التي كانت تَحمل في طيّاتها الشعرية والبلاغة وروح الشعب وتاريخه، أضحت مسخًا لغويًا تحكمه التفاهة والاستهلاك السريع. لغة هجينة، خليط مشوّهٌ من الكلمات المبتورة والمفردات السطحية التي لا تحمل أيّ عمق شعوري أو فكري. وكأنّنا أمام مؤامرة على الذوق والوعي!
المسلسلات والبرامج الترفيهية لا تقدّم سوى حوارات مكرّرة وسطحيّة، كأنّ الجمهور لا يستحق أكثر من “الثرثرة العقيمة”. أما الإعلانات التجارية، فقد تجاوزت الابتذال إلى مرحلة كارثيّة، حيث تُختلق عبارات ركيكة لا تمتّ للهجة التونسية بأيّ صلة، لكنّها مع ذلك تنتشر بسرعة كالنار في الهشيم. والنتيجة؟ جيل جديد يتحدّث بلغة بلا هويّة، بلا جمالية، بلا وعي!
المناهج الدراسية لا تُعطي للهجة التونسية حقّها، وتترك التلاميذ نهبًا لعشوائية الشارع والإعلام. لا يوجد أي جهد جاد لتدريس اللهجة كمكوّن ثقافي وفنّي قادر على تطوير مهارات التعبير والإبداع. وهكذا، ينشأ جيل لا يعرف سوى لغة الاختصارات المبتذلة، كأنّ التواصل أصبح مجرّد رموز باردة تخلو من أيّ بعد جمالي أو فكري.
قلّة من المبدعين يدركون خطورة الوضع ويحاولون التصدّي لهذا الانحطاط، لكنّ أصواتهم تُغرقها موجة الرداءة. وهكذا، تُترك اللهجة التونسية لمصيرها المحتوم: التفكيك والابتذال، حتى تصبح مجرّد أثر تاريخي في أرشيف اللغة.
و لعلّ الأمر يتطلّب قرارًا جريئًا وحازمًا. المؤسسّات الثقافية والتعليمية يجب أن تتحمّل مسؤوليتها، والإعلام الشفوي يجب أن يُحاسب على تفاهته. لا بدّ من مشروع وطني يعيد للهجة التونسية مكانتها كأداة تعبيريّة راقية، من خلال المسرح، الأدب، الشعر، والبرامج التي تحترم ذكاء المشاهد. نحن بحاجة إلى انتفاضة ثقافيّة حقيقيّة، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي تاريخ و هوية. فهل نحن مستعدّون لحماية لغتنا، أم سنظل صامتين حتى لا نُرى؟
المفكرة: في رأيك ما الذي يجعل من تجربتك المسرحيّة التّي تتوفّر على عناصر تقاطع نضاليّة وجماليّة مع ما أنجزه جيلك وكذا من برزوا بعده، تجربة خاصّة في التشابك مع الواقع التونسي والارتقاء بشواغله حتّى تنصهر فيما هو أشمل وأعمق كونيّا؟
الجبالي: منذ بداياتي، كنت واعيًا بأنّ المسرح لا يُمكن أن يكون منفصلًا عن سياقه، لكنّه في الآن ذاته ليس سجين هذا السياق. لذلك، عملت على اختبار لغة مسرحيّة خاصّة لا تكتفي بعَكسِ الواقع، بل تحرّض على مساءلته، على كشف هناته، على إعادة تشكيله. في أعمالي من ” كلام الليل” إلى “هنا تونس” إلى “على هواك”، لم يكن الرهان فقط تقديم حكاية، بل خلق بِنية مسرحية قادرة على تحريك الوعي الجماعي و إثارة السؤال. أمّا التشابك مع الواقع فقد كان دائمًا نقديًا وجدليًا، ليس بنقل مباشر للأحداث، بل بإعادة تفكيكها في سياقات جمالية تمنحها بعدًا يتجاوز الظرفيّ والعابر. لم يكن المسرح عندي وسيلة للخَطَابة أو المباشرة، بل مساحة للتوتّرات الحيّة، حيث تلتقي اللغة بالجسد، والشعر بالفوضى، والعابر بالمطلق.
وفي ظل هذا التشابك، ظلّت الأسئلة الكبرى هي المحرّك الأساسي: كيف يتحوّل المسرح من وثيقة إلى رؤية؟ من مجرّد محاكاة إلى فعل تغييري؟ هنا يكمن البعد الكوني في التجربة، حيث لا تبقى القضايا تونسية فحسب، بل تصير انعكاسًا لانشغالات إنسانية أعمق: الحرية، السلطة، الاغتراب، البحث عن المعنى في عالم آخذ في الانهيار.
لقد كان الرهان دائمًا هو كسر الحدود، سواء كانت سياسيّة، جماليّة، أو فكريّة، وجعل المسرح مساحةً دائمة للقلق والتجريب والانفلات من أي تصنيف جاهز.
المفكرة: أيّة مرجعيّات من الممكن أن يتّكئ عليها المسرحي في تونس ؟ والأهمّ، وكما تلحّ على ذلك، كيف ينزّلها في بيئته التونسيّة ؟
الجبالي: في تصوّري، المسرحي في تونس لا يمكنه الاتّكاء على مرجعيّة واحدة ثابتة، لأنّ المسرح بطبيعته فنّ هجين، متعدّد الطبقات، مفتوح على التأثيرات المختلفة. لكن الأهم ليس فقط في اختيار المرجعيات، بل في كيفية تهيئتها داخل الواقع التونسي، بحيث لا تبقى مجرّد استعارات مستوردة، بل تتحوّل إلى أدوات فعّالة لخلق لغة مسرحيّة متجذّرة في سياقها، وقادرة على التواصل مع المتلقي التونسي دون أن تفقد بعدها الإنساني والكوني.
في تجربتي، أجدني أستقي من مصادر متنوّعة، تمتدّ من المسرح الملحمي عند بريخت، إلى فلسفة الأداء الجسدي في مسرح الشرق الأقصى، إلى المسرح التجريبي المعاصر الذي يكسر الأطر التقليدية للحكاية والعرض، والأهم من بنية ثقافتنا التراثية السردية التي تتلاءم مع ما يطلق عليه بمسرح ما بعد الدراما و غيرها من التراث الكلاسيكي. لكن هذه المرجعيّات لا قيمة لها إن لم تخضع لعمليّة تفكيك وإعادة تركيب تتناسب مع الهدف الأساسي في أي مشروع فنّي .
لهذا، أرى أنّ المسرحي في تونس يجب أن يكون حفّارًا في واقعه، لا مجرّد ناسخ لنظريّات غربيّة أو باحث عن شرعية أكاديمية. عليه أن يتماهى مع بيئته، أن يفهم إيقاعها اللغوي، أن يلتقط نبضها الاجتماعي، وأن يُواجه محرّماتها وما تسكت عنه دون تواطؤ أو مهادنة. التونسي لا يتفاعل مع المسرح إن شعر أنّه غريب عنه، لكنّه بالمقابل يحتاج إلى صدمة، إلى زعزعة، إلى إعادة قراءة نفسه من خلال لغة مسرحيّة تعكسه ولكن تحرّضه أيضًا على مساءلة ذاته.
إذن، ليست المسألة في “أي مرجعيّات”، بل في كيفيّة إخضاع هذه المرجعيّات لاختبار البيئة التونسية، كيف نجعلها تتحوّل إلى أدوات إنتاج مسرح جديد، مشحون بالأسئلة الراهنة، متجاوزًا حدود الفرجة التقليدية نحو تجربة مسرحية تهزّ المتفرّج، وتجعله شريكًا في إعادة التفكير في ذاته ومجتمعه.
المفكرة: التياترو بيتك الحميم؟ خيمتك الأخيرة ؟ أيّ ايقاع يحكم تواصل هذا الفضاء وأيّ نبْض بعد رحيل زينب فرحات؟
الجبالي: يقول دوني ديدرو في كتابه ” مفارقة عن الممثّل”: ” المسرح هو مورد، وليس خيارًا”. في هذا النصّ، يوضّح ديدرو أنّ مهنة الممثّل لا تنبع من رغبة في الفضيلة أو أمل في أن يكون مفيدا للمجتمع، بل من ضرورة أو مورد يلجأ إليه المرء…
أعتبر أنّ التياترو هو ملجؤنا الذّي لم نختره بل وجدناه.. فاحتمينا به.. لكي نحتمل عبء النقائض ومحن البقاء.. و يصبح أقسى بغياب من نحبّ.
المفكرة: ما المعضلة الأكبر في المسرح التونسي؟
الجبالي: الغرور، عدم الاتقان، كثير الثرثرة، عديم الجرأة والطموح.
المفكرة: ما المعضلة الأكبر في المسرح العربي؟
الجبالي: تلميذ غير نجيب للمسرح العالمي أو أسير تراثه دون تجديد.
كمال الهلالي
legal-agenda.com