“قمر مكتمل”.. أجساد مقاومة تصل بين ضفتي الحضارة / محمد ناصر المولهي
عرض فرنسي يحرر أفريقيا من سلطة الرجل الأبيض برؤى جديدة.
ربما صارت العبارة بالية من كثرة تكرارها، لكنها مازالت راسخة وستظل: “لا حرية بعيدا عن حرية الجسد”. الجسد هو وسيلة التحرر الإنساني الأولى، ولا نقصد بالحرية فقط حرية الشكل والتشكّل أو الممارسة الغريزية، بل حرية التواجد والتعبير، فالجسد في النهاية خصوصية ثقافية، ولذا فإن أي مقاومة لأي نوع من أنواع الاستعمار، تمر بداية بالجسد، كما نرى في عرض “قمر مكتمل”.
بين العلم والأساطير يسكن القمر، ومنهما ينفلت متجولا بين الصور والأفلام والأغاني والقصائد والرسومات، إنه مرافق الإنسان الليلي الأكثر إلهاما وإلماما بهواجس البشر وخيالاتهم وأحلامهم وما يكتمونه من أصوات وشهوات وغيره مما يسبح في ظلام الذوات الداخلي.
كان لابد من مسار شبه شعري هكذا في مقاربة عنوان العمل الكوريغرافي الفرنسي “قمر مكتمل” للمخرج الفرنسي جوزيف نادج، الذي تابعه جمهور غفير في قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة التونسية ضمن فعاليات الدورة 25 من أيام قرطاج المسرحية، مقاربة نحاول من خلالها معرفة الرابط بين عنوان العرض ومضمونه.
وصل ضفتين
الدقة كانت جلية بين الحركات الثابتة التي يؤديها الرجل الأبيض صاحب السلطة والحركات التحررية العمودية والأفقية للأفارقة
المؤدون في العرض مجموعة من الرجال السود ذوي الأصول الأفريقية، ومؤد واحد أبيض، يلبس قناعا أو هو كيس في رأسه وملابس عكس البقية ويقف منعزلا عنهم وكأنه يتحكم بهم. البداية كانت مع هذا الرجل الغامض الذي يحرك يديه وكأنما يتلاعب بشيء ما من بعيد، يتحكم بإيقاعه وبحركته، وهذا الشيء لن يكون سوى الرجال السود أولئك.
يظهر ويختفي، يبدو أن الرجل الأبيض الغامض صاحب القناع المتأنق في لباسه يقود أجساد الرجال الآخرين بشكل فردي وجماعي، يتحكم في إيقاعهم، يجمعهم ويفرق بينهم، يدفعهم إلى التصادم أو التآلف، وجلي هنا ما يريد المخرج إيصاله إلينا في عمله الكوريغرافي.
لا يوجد تلك الصورة المعتادة التي تقدمها الأعمال الفنية عن الاستعمار بوحشيته التي لا تطاق وقصصه الحزينة وبطولات المقاومين وغيره من مسالك عهدناها في الحكايات التي تناولها المسرح والسينما والأدب وغيرها من فنون. هنا نحن أمام استعمار ناعم نوعا ما، لا يظهر كثيرا في الصورة بل يتحرك في العتمة ويمارس تحكمه في مآلات الشعوب، بينما هذه الأخيرة تغرق في الصراعات والانقسامات وكل محاولة للتوافق تؤول إلى الفشل.
تستمر المقاومة الفردية والثنائية والجماعية لخلق كتلة متوحدة ومنسجمة، وهو ما تنجح فيه المجموعة لينتهي العمل بإخضاع الرجل الأبيض وإلباسه القناع الأفريقي، ويلبس الجميع القناع الأفريقي وملابس ويحيون الجمهور في خروجهم الجانبي من الخشبة.
عرض يتجاوز الصورة المعتادة التي تقدمها الأعمال الفنية عن الاستعمار بوحشيته وقصصه الحزينة وبطولات المقاومين
يمكن تأويل كل حركة في العرض الذي يبهرك بدقته الكبيرة في الحركات ولعبها مع الموسيقى، والموسيقى بالمناسبة كانت بدورها عاملا أساسيا في تحريك عجلة الفعل الدرامي، وتغيير الإيقاع الحركي وسرد الحكاية أو الفكرة بطريقة تتجاوز النمطية وتدفع إلى التفكير حول كل مشهد، مقطوعات مدروسة من الموسيقى الأفرو – أميركية، وهذا ما يؤكد لعب العرض على الوصل بين ضفتين: الضفة البيضاء والسوداء.
الدقة كانت جلية بين الحركات الثابتة التي يؤديها الرجل الأبيض بيديه وحتى ساقيه الثابتتين على الأرض، إنه صاحب السلطة، كما كانت مدروسة فيما رأيناه من الحركات التحررية للأفارقة عموديا بين الأرض والسماء، في القفزات والنظرات والانخفاض والارتفاع، وأفقيا في حركات دائرية تشير إلى العبث، وحركات فردية مثل حركات البطن، في إشارة إلى الجوع الذي تعاني منه أفريقيا، ثم حركات اصطدام المؤدين ببعضهم البعض وانعتاقهم وتجاورهم وتنافرهم ومحاولتهم المسير إلى جهة ما بصفتهم قوة دفع متوحدة ولكنها ليست واحدة.
الدقة حاضرة في الاداء والإضاءة والموسيقى، كما أنها حاضرة أيضا في الأدوات القليلة التي استعملها المؤدون، من الخيوط إلى العصا إلى الأقنعة والملابس، فنجحت في صناعة الدلالة التي ربما تتغير جزئيا عند كل متلقٍ وفق تصوره وثقافته وتجربته، ولكنها تبقى محافظة على معانيه الكبرى من السلطة والتقييد والحد والمنع وهلم جرا.
الدقة هي التي تصنع الحكاية والفكرة، وهي ما يقودنا إلى تصورات المخرج في هذا العمل، مخرج ينتصر لحقوق الأفارقة في تقرير مصيرهم، وفي التوحد، وفي التحرر من كل وصاية واستعمار غير مباشر، حقهم في المساواة الإنسانية وفي أن يكونوا جزءا فاعلا في الحضارة البشرية اليوم.
اكتمال الحضارة
قد يرى البعض في “قمر مكتمل” عودة إلى الجذور الأولى، ونموا جديدا من الأرض، وهو تأويل تفرضه عدة تفاصيل في العمل، وخاصة الحركات التي تولد من الأسفل وكأنها تنمو من أرض الجسد لتنطلق عبر الأيدي والقفزات إلى الفضاء. لكن هذه العودة إلى الجذور ليست عودة تاريخية في اعتقادي أو هو تأويلي الخاص، بل عودة لما يوحدنا، الأرض.
كلنا بيضا أو سودا أيا كان انتماؤنا ننتمي إلى أرض واحدة بكل ما فيها من تنوع، تتنوع ثقافاتنا ولكن في النهاية هي إنسانية، لا تفاضل بين البشر رغم التفاوت، ألم يستلهم بيكاسو الحداثة التي أطلقها كالثورة في الفن التشكيلي الأوروبي من الأقنعة الأفريقية؟ إذن لا تراتبية مسقطة، لكل إنسان فنه تصوره إيقاعه معرفته حدوده مشاعره إلخ.
ما يخلص إليه العرض ربما هو دعوة إلى الرؤية بأعين الآخرين، دعوة للرجل الأبيض أن يلبس القناع الأفريقي ويتحرك في تلك المنطقة بجسده وتفاصيله، إنها دعوة للأخوة في النهاية.
ربما كان اكتمال القمر حدثا ميثولوجيا في العديد من الثقافات، وربما يكتفي البعض ببعده العلمي في علاقة القمر بالمد والجزر، لكن اكتمال القمر في هذا العرض هو تكامل الحضارة البشرية الذي لن يكون إلا بنزع كل أشكال التسلط والتحكم والظلم والاستعمار والقتل والاستعباد، وترسيخ التنوع الثقافي والرؤية بأعين الآخر، وهذا ما يبدو بعيدا الآن.
نجح المخرج في تأسيس فكرته وسرديته عبر الأجساد الرائعة تلك، وبالمناسبة ليست كلها رياضية، ولكن أتساءل في نهاية العرض: أين هي المرأة؟ هل من فعل حضاري بلا نساء؟