“اصطياد”.. عن الشائعة وتأثيرها في المجتمعات شرقا وغربا / حنان مبروك
مهند كريم يمسرح فيلم "الصيد" للدنماركي توماس فنتربيرغ.
بعد مسرحية “أغنية الرجل الطيب” التي عرضها العام الماضي في أيام قرطاج المسرحية وانتقد فيها الفساد السياسي والدولة البوليسية، عرض المخرج الإماراتي مهند كريم هذا العام “اصطياد” التي تقارب آثار انتشار الشائعات على المجتمعات مركزا على العديد من المفاهيم المهمة منها الصراع بين الأنا والآخر، الصداقة والصدق، التحرش الجنسي بالأطفال، والعنف المجتمعي.
في العام 2012، أخرج الدنماركي توماس فنتربيرغ فيلم “الصيد” الذي ترشح لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية (غير الإنجليزية)، حيث تناول الفيلم موضوعا مهما يتلخص في مدى تأثير الشائعة على حياة الفرد والمجتمع.
تدور أحداث الفيلم في قرية دنماركية صغيرة خلال فترة عيد الميلاد حول رجل يصبح هدفا لهستيريا جماعية بعد أن تم اتهامه ظلما بالتحرش بفتاة صغيرة في الروضة التي يعمل بها، يتعرض إلى العنف الجماعي ويطلق عليه أحدهم النار في النهاية رغم كل محاولاته لإثبات براءته.
بعد نحو 12 عاما اختار المخرج الإماراتي مهند كريم أن يمسرح هذا الفيلم ويعرّبه مع الحفاظ على الإطار العام للقصة الأصلية لمعلم تتهمه طفلة صغيرة بالتعدي عليها، مركزا على العنف الممارس ضد المرأة في المجتمع العربي والتعدي على الأطفال وأثر الشائعة في تدمير حياة الإنسان وكيفية تعامل المجتمع معها.
المسرحية من تمثيل فرقة دبا الحصن للثقافة والتراث والمسرح والتي تجمع شريف عمر وعبدالله الخدم ونبيل المازمي وآلاء أحمد وأحمد أبوعرادة، صوت سما البصري وموسيقى محمد علي سلامة وتصوير المواد البصرية أحمد المهري.
من السينما إلى المسرح
بين “الصيد” و”الاصطياد” يمكن القول إن المخرج المسرحي لم يغير عنوان عرضه كثيرا، بل بحث عن مرادف له ليجعله عتبة لعمله الفني، عتبة ترمي بنا في عالم الصيد وكيف يصطاد الشخص ضحيته، وكيف يصطاد المجتمع الشائعة فيلصقها بالفرد ويسارع بنبذه ومحاكمته ورفض براءته.
لكن تغيير المفردة يغير معناها اصطلاحا، فالصيد يصطلح به على كل ما يُصاد من السَّمك والطَّير والوحش، أما الاصطياد فهو القنص وإيقاع الفريسة في مصيدة، أي أن الاصطياد يحمل نوايا مبيتة تترصد بالضحية حتى تفتك بها، وهو أشد تعبيرا عن الثيمة العامة للعمل سواء كان سينمائيا أم مسرحيا.
في “الصيد” جمع المخرج السينمائي الدنماركي حكايات حقيقية ليصنع منها فيلما يجمع بين الحقيقة والخيال، وكذلك فعل المخرج المسرحي الإماراتي فقد مزج بين الواقعي والمتخيل، ليصدمنا بإحصائيات عن نسب التحرش بالنساء والعنف في المجتمع من خلال حكاية متخيلة لطفلة تتهم رجلا بالتحرش بها.
يحكي الفيلم قصة لوكاس وهو أحد سكان إحدى البلدات الدنماركية الصغيرة، يعمل في روضة الأطفال المحلية. يكافح لوكاس من أجل الحفاظ على علاقته مع ابنه الوحيد بسبب عدوانية زوجته السابقة، ولكنه يستمتع بالتفاعل مع أطفال الحضانة التي يعمل بها. لاحقا، تبدي زميلته ناديا بعض المشاعر نحوه، لتنتقل في النهاية للعيش معه.
تقوم تلميذته كلارا، ابنة صديق لوكاس المقرب ثيو، باتهام لوكاس ظلما حاول التحرش بها ويعرض الرجل للتحقيق بينما تتجه إليه أصابع الاتهام والرفض من جميع من يعرفهم. يرفض الجميع تصديقه بل ويصرّون على أن شهادة الفتاة حقيقية ويغضون النظر عن تعليقات الطفلة المناقضة لاحقا بحجة أنها في مرحلة الإنكار بسبب الصدمة.
يقاطع معظم أفراد البلدة لوكاس باعتباره متحرشا جنسيا، تتحطم صداقته مع ثيو وينفصل عن ناديا، بينما يقوم الجميع بتجنب ابنه، ويدّعي بعض الأطفال في الروضة أن لوكاس قد أساء معاملتهم داخل قبو منزله مع ذكر تفاصيل ذلك القبو، الأمر الذي يوفر للوكاس حجة دفاع قوية وذلك لأن منزله لا يوجد فيه قبو. بعد جلسة الاستماع، يُطلق سراح لوكاس دون تهم.
وعلى الرغم من براءته، يعنف لوكاس ويرفضه مجتمعه، يجد كلبه مقتولا أمام باب منزله، يرميه الناس بالحجارة، ويضربه عمال البقالة حين يشتري الطعام.
عشية عيد الميلاد يواجه لوكاس صديقه ثيو في الكنيسة، لاحقا في تلك الليلة، يسمع ثيو ابنته تعتذر للوكاس عن كذبها، يدرك ثيو بأن صديق طفولته بريء من هذه الاتهامات، فيقوم بزيارته والاعتذار منه. رغم ذلك لا ينسى المجتمع التهمة الموجهة للرجل، ويطلق عليه أحدهم النار، بعد سنة كاملة، حين كان في رحلة صيد.
حافظ المخرج الإماراتي على فكرة العمل السينمائي، لكنه عرّب النص وأطلق على الشخصيات أسماء عربية، هي سارة وزوجها يحيى وصديقهم زكريا وابنتهم ريم إلى جانب بهاء مدير المدرسة والمحقق والمحامي. في العمل المسرحي نحن أمام قصة المدرس زكريا، يتهمه بهاء مدير المدرسة الثانوية بالتحرش بريم ابنة زميله يحيى، وتقدمها بشكوى ضده، فيتم إيقافه عن العمل وتحويله إلى التحقيق.
حب الطفلة للرجل دفعها لاتهامه زورا، تنتشر الإشاعة ضد الرجل كالنار في الهشيم، ينبذه الناس ويعنفونه حتى يقترب من الجنون، يحاول الهرب من البلاد لكنه يعجز عن ذلك، تكثر الاتهامات ضده، ويطلق النار عليه في النهاية. هكذا تحول الحكاية إلى حكاية عربية، تشبه الحكاية الدنماركية ويمكن أن تتحول إلى حكاية بهوية أخرى، فالتحرش فعل يمارس في كل المجتمعات، كذلك كذب الأطفال وأثر الشائعة على حياة الفرد والمجموعة.
هي مواضيع شائكة عبّر عنها مهند كريم بنص مسرحي شديد القلق تغلب عليه اللغة العربية مع بعض الجمل الحوارية بلهجة عامية تكسر حدة التصاعد الدرامي لنسق الحوار الثنائي، نص صادم يعرض علينا صراعات نفسية كبيرة، نص يستفزنا للبحث في حقيقة الاتهامات الموجهة للبشر من حولنا، لاسيما إن كانت اتهامات من أطفال. نص يذكر بحملة “أنا أيضا” العالمية التي اتهمت شخصيات مهمة عالميا وعربية بالتحرش بأطفال ونساء، ثم مع الوقت اتضح أن بعض الرجال المتهمين كانوا ضحية شائعات وتهم كيدية، لكن بعد ماذا، بعد أن نبذهم المجتمع ودمرت حياتهم وفقدوا كل ما يملكون.
وقد أوضح المخرج قائلا “أردنا أن نكشف كيف يمكن للاتهام الباطل أن يُحطم حياة الأبرياء، وناقشنا عبر أدوات بصرية ورمزية قضايا مجتمعية لا تزال غارقة في سوء الفهم.”
مقاربة محكمة
مزج المخرج مهند كريم في هذه المسرحية بين أداء الممثل والديكور وتقنيات المسرح الكلاسيكي مع توظيف تقنيات الفيديو في عمق الخشبة، تناغمت جميعها لإيصال رسائل العرض المسرحي.
بديكور بسيط وإضاءة خافتة ينطلق العمل مباشرة نحو الثيمة الرئيسية، صندوق شفاف في الجزء الأيسر من الخشبة سيكون سجنا للمتهم، صندوق بلوري بداخله فستان أحمر كإحالة على الطفلة ريم، الغائب الحاضر والمحرك الأكبر لأحداث الحكاية، هناك أيضا كراسة صغيرة ينقلها الممثلون ليغيروا ديكور العمل حسب المشهد وذرى العقد الدرامية، حيث يركز مهند كريم بشكل أكبر على جسد الممثل وأدائه وحركته وصوته، هو بطل الفعل المسرحي، وهو الذي ينطقه المخرج ويحركه في ما يشبه المحاكمة الدرامية لسوءات البشرية، محاكمة مسرحية تنبذ الشائعة وتدين كل آثارها على الإنسان، لكنها تدين أيضا كل الانتهاكات الممارسة ضد المرأة وتدين كل أشكال العنف.
المخرج الإماراتي مسرح وعرّب فيلم “الصيد” مع الحفاظ على القصة الأصلية لمعلم تتهمه طفلة بالتعدي عليها
“مشهد مؤلم، ما رأيك بعالم الآلام المحيط بك الآن،” هكذا عنون المخرج مشهد العنف والضرب الذي مارسته الشخصيات ضد زكريا، مسلطا الضوء عبر حركة الممثل العنيفة وكلماته الأكثر عنفا على منسوب العنف المرتفع في مجتمعاتنا عربية كانت أو غربية.
بتقنية الفيديو يكشف المخرج مدى سقوط الكثيرين في هوة العدمية واللاإنسانية، يصدمنا بإحصائيات عن الاعتداءات المتكررة على الأطفال من قبل الأقرباء وفي مقدمتهم الآباء، فحسب إحصائيات اليونيسيف تعرض قرابة 40 في المئة من الأطفال للتحرش الجنسي من الأقارب. لكن كريم لا يكتفي بنقل كل ذلك، إنما يكشف حجم الخوف الذي يعيش به الطفل، قد ينسى ما حدث معه، يتجاهله، يعنفه أهله لأنه جلب لهم العار، يأمرونه بالنسيان فينسى لكنه يكبر بخوف مقيت يرافقه طوال حياته.
مفردات وعبارات ورموز أخرى يوظفها المخرج ليقف بنا على خطر الشائعة على المجتمعات، من الإنكار إلى التطهير إلى الحساب إلى جحيم دانتي وصولا إلى الاعتراف، أشعار وأقوال تصوغ نسيجا فلسفيا متكاملا يدور في فلك ” مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” كما يوجهنا النص القرآني أو “ألَا تَرَوْنَ كَيْفَ أنَّ شَرَارَةً صَغِيرَةً يُمْكِنُ أنْ تُحْرِقَ غَابَةً كَبِيرَةً؟” كما يوضح الإنجيل.
ومهند كريم في “الاصطياد” يواصل تجربته التجريدية التي تنتقد الواقع البشع وكل أشكال الفساد ومظاهره في المجتمعات وآثاره على الأفراد والمجموعات، يقدم ذلك عبر مقاربات مميزة تعززها سينوغرافيا موظفة بطريقة جيدة وديكورات تسهم في تعميق حالة الصراع بين الشخصيات التي تتقمصها طاقات تمثيلية مقنعة. ويمكن أن نخلص إلى أن مهند كريم في “الاصطياد” نجح في مقاربة الفيلم ونقله إلى عوالم المسرح، مع توظيفه بتقنيات زاوجت بين نمطين إبداعيين هما المسرح والسينما.