في مسرحية “التابعة” لتوفيق الجبالي: لسنا بخير … نحن ننتحر ! / ليلى بورقعة
من أين نبدأ؟ وكيف ننتهي؟ هل يمكن للقلم أن يسعفنا و للعقل أن ينجدنا في اقتفاء أثر “التابعة” إبداعيا وجماليا وفكريا…
إنّ هذه “التابعة” تصيبنا بلعنة الأسئلة التي تبدأ ولا تنتهي ! أمام مسرح توفيق الجبالي، حتى إن نمقنا الكلمات فإنّ الجمل تتلعثم في محاولة توصيف تجربة منفلتة ومتمردة ومتفردة كقبس نور في غسق الليل. هو ببساطة مسرح يقف عند المسافة الفاصلة بين العقل والجنون في ما يشبه الوحي، وفي هذا الموقع يمتلك المبدع عبقرية قد لا تتكرر !
على بعد خطوتين من باب قاعة العرض في فضاء التياترو، تستوقفنا صورة الراحلة زينب فرحات المعلقة الجدار. لم تكن مجرد صورة لفقيدة عزيزة بل كانت ابتسامة ورسالة من رفيقة درب توفيق الجبالي وكأنها تقول كما كانت تقول في حياتها: مرحبا بكم في التياترو ، لا تهجروا المسارح، لا تفقدوا شغف الحياة !
من يملك المعلومة.. يملك الحقيقة؟ !
ركح قاتم الإضاءة وستائر بيضاء كثيرة معلقة كجدار أمامي على الركح. كم عددها؟ واحد، اثنان، ثلاثة… ربما عددها إحدى عشرة ستارة! فما المقصود من الاشتغال على سينوغرافيا الستارة في المسرح المعاصر الذي يوغل إلى ما وراء الستائر في التجريب والتجريب؟ يبقى هذا السؤال معلقا حتى ينكشف سرّه وتزال حجبه عند اقتراب عرض “التابعة” من توديع جمهوره.
بالتداول، يظهر على الركح الممثلون واحدا تلو الواحد في أيديهم حقائب عليها صور تشير إلى مشاهد من الثورة التونسية، إلى ظواهر عنف ضد المرأة، ضد الطفولة، إلى توحش الإنسان/ الذئب… قد تستحيل هذه الحقائب إلى صناديق أسرار تخفي الحقيقة أو جزء منها ليطفو نصفها على السطح ويبقى نصفها الآخر ضبابيا وخفيا ومشحونا بالأسئلة الحائرة.
يحتل السؤال الذي يثير زوبعة من التساؤلات مربط الفرس في مسرح توفيق الجبالي تماما مثلما هو السؤال في الفلسفة أداة للتوصل إلى المعرفة والحقيقة اللانهائية، لتصبح حتى محاولة الإجابة أسئلة بحد ذاتها !
في تقديم “التابعة” يقول مخرجها ومؤلفها توفيق الجبالي بعيدا عن الملخصات الكلاسيكية والمقدمات المستهلكة بأسلوبه القد والساخر والنافذ إلى الأعماق: “إنّ هذا العمل المسرحي خال من الإشارة لأي طرف أو سلف… أما نحن فقد أردنا حث الذاكرة الجماعية والفردية بالسؤال… لما استفحل فينا من عدوان، منذ غابر الأزمان دون أن نعثر على جواب أو من يدلنا عليه.. و لكم عددنا الأفعال بكبيرها و حقيرها وصمتنا عن الفاعل علا أم حط شأنه، جبنا أو جهلا أو تواطئا… وما الأحداث في حضورها وغيابها، اللا متناهية في الصغر. ..واللامتناهية في الكبر …إلا مناسبة لتوسيع دائرة الجدل والثرثرة حول…العدم “.
ثرثرة العدم وثورة فنان
كثيرا ما توصف النساء بأنهن كائنات ثرثارة ، تتحدث ولا تصمت بل تمر من موضوع إلى آخر بلسان لا يمل الكلام. وهكذا كنّ نساء توفيق الجبالي في “التابعة” يتحدثن ويتحدثن إلى حد الصداع الذي يذهب بالرأس. لا تثرثر المرأة عبثا بل قد يكون السبب فراغا داخليا تشعر به المرأة خاصة عند التكاسل عن البحث عمّا يملأ فراغها… وقد كانت أحاديث نساء “التابعة” اللاتي مثلن أغلبية نسائية بامتياز على الركح بمثابة شذرات متناثرة من القضايا وعلى شكل شظايا من المواضيع تأخذ من كل شيء بطرف دون خيط ناظم بينها.
تبدو “التابعة” متمردة على بنية المسرح الكلاسيكية ومنفلتة من عقال التصنيف، لتأخذ شكل لعبة “البازل” المتفرقة الأجزاء وعلى عقل المتفرج أن يعيد تركيبها حتى يعثر على الصورة النهائية الصحيحة. لا يتوانى المسرحي توفيق الجبالي عن رج تفكير المتلقي حتى يبحث ويتساءل ويتخلى عن منطقة الرفاه الدغمائية ليصل إلى درجة الإنسانية الواعية والمفكّرة.
على الضفة الأخرى من الحكاية / من الركح يظهر الكاتب المثقف والفنان الفيلسوف وكأنه سيزيف في ملحمته يدفع بصخرته من أجل تحرير الكلمة وزرع الأمل ومحو اليأس … وبناء الإنسان !
ما بين مشاهد النساء الثرثارات ومشاهد الكاتب المفكر، تبدو الفوارق عميقة كمسافة ما بين الأرض والسماء على مستوى لغة الخطاب والهواجس والأحلام والانفعالات… هي صورة متناقضة تعمّد صاحب “التابعة” إبرازها في سخرية لاذعة من البون الشاسع بين الموجود والمنشود.
في هذا السياق قد تترجم مقولة “تشيخوف” مقصد توفيق الجبالي، والتي تقول: “في المجتمعات الفاشلة، يوجد ألف أحمق مقابل كل عقل راجح، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية. فعلى سبيل المثال، الأغاني والكلمات التي لا معنى لها تجد ملايين الناس يرقصون ويرددونها، ويصبح صاحب الأغنية مشهورًا ومعروفًا ومحبوبًا. بل حتى الناس يأخذون رأيهم في شؤون المجتمع والحياة.أما الكتاب والمؤلفون، فلا أحد يعرفهم ولا أحد يعطيهم قيمة أو وزنًا. معظم الناس يحبون التفاهة والتخدير. شخص يخدرنا ليغيّب عقولنا عنا، وشخص يضحكنا بالتفاهات، أفضل من شخص يوقظنا للواقع ويؤلمنا بالقول الحق. “
شيئا فشيئا، ومع اقتراب المسرحية إلى خط النهاية بعد أن أضحكتنا “التابعة” وأبكتنا وأوجعتنا… تتحوّل الستائر البيضاء المعلقة إلى دهشة مشهدية تصنع سينوغرافيا مربكة في جماليتها ورسائلها… فقد تستحيل هذه الستائر إلى خيوط أمل أو إلى حبال مشنقة حيث تتشابك المسارات والمصائر أمام لعبة القدر !
قد تتراءى لنا مسرحية “التابعة” وكأنها مرثية للإنسان ولقيم الخير والجمال …أو كأنها وصية لإنقاذ الإنسانية من لعنة الانتحار !
الجذاذة الفنية لمسرحية التابعة
نص وإخراج : توفيق الجبالي
مساعدة المخرج :آمال العويني
ساهم في الكتابة : عياض الشواشي و امال الرامي
أداء: يسر القلعي – ليلى اليوسفي – زياد العيادي – سيرين بن يحي – ياسمين الديماسي – مهدي الكامل – سرور الجبالي
تصميم المشاهد : مروان الروين
تصميم الاضاءة: صبري العتروس
المؤثرات الصوتية و البصرية والتوضيب العام : وليد حصير
تنفيذ الإضاءة: محرز زيدان
تنفيذ الملابس: بسمة الذوادي
سينوغرافيا: توفيق الجبالي وصبري العتروس
إدارة الانتاج : سرور الجبالي – ايناس الجبالي