مسرحية “واحد” اخراج مروان الميساوي لا تفقد الأمل أيها القلب…فجميعنا ضحايا الخوف والحب / مفيدة خليل
المسرح حياة اخرى المسرح فعل لممارسة الحياة بكل حرية، فضاء للبحث والتجريب وكتابة حياة متمناة وحبّ منتظر،
على الركح يصبح البوح افصح وحركة الممثل اكثر خفة فالمسرح فعل حرّ ومختلف ومنه يستمد الممثل طاقته لينحت شخصياته، المسرح باب للأمل والحب هذه التيمة الانسانية التي اعتمد عليها مروان الميساوي لكتابة وتقديم مسرحيته “واحد”.
المسرحية من تمثيل اوس ابراهيم وحامد سعيد ومحمد البرهومي وشيماء بلحاج ومحمد فوزي البكوش وزينب المرزوقي، صمم موسيقاها وضاح العوني والاضاءة لشوقي مشاقي وتقني الاضاءة رياض توتي وتوظيب ركحي غازي لكحل.
المسرح سؤال قلق عن الانا ؟
يقولون أن الإنسان يشيخ عندما يتقدم به العمر، لكنه في الحقيقة يشيخ عندما ينطفئ ضوء ما كامن في روحه جملة لشمس الدين التبريزي تختزل المسرحية وأوجاع شخصياتها، فالعمل يدافع عن فكرة الحب، كل الشخصيات تبحث عن الحب وتقدم الكثير من العاطفة والوهم والتنازلات لتحظى بالحب عاطفة ومعنى، الحب هذه الكلمة العظيمة بنيت عليها الحبكة الدرامية لعمل مسرحي كتبه شاب يبحث عن التجديد والتجريب واعتمد على ممثلين وصناع فرجة وتقنيين استطاعوا التماهي مع فكرة التجديد في المشهدية المسرحية.
“واحد” هو عنوان المسرحية، منذ العتبة يدعوا المخرج جمهور للسؤال عن هذا “الواحد” اهو فرد ام عدد ام مجموعة مشتتة ومع تقدم الاحداث يعيدنا مروان الميساوي الى لحظة الولادة الاولى فالانسان يولد من الرحم وحيدا واحدا وبعدها تتشكل معطيات اجتماعية اخرى تجبره للانخراط فيها.
“واحد” هو كل انسان يعيش وجع الوحدة وسط المجموعة، هي صوت الفنان الحالم الباحث عن افكاره وكيفية تقديمها وسط مجموعات تدّعي التفاهم وهي تعيش صراعات، “واحد” نص جريء كتب صاحبه عن الحب عاطفة وسلاحا للمواصلة، فلا وجود للحياة دون الحب وحده الحب يزين كل السبل ويجعل المستحيل ممكنا، في العمل يبحث ميلاد عن حبيبته التائهة منه، ويبحث الزوج عن بعض الحب من زوجته مكررا جملة (نحبك يا السيدة)، وحين يأس المتشرد من ايجاد من يحبّه ارتمى في حضن الجنون، وميلود حين فشل في ايجاد الحب اتجه الى الجريمة، لكل منهم وسيلته لاشباع الفراغ العاطفي وملئ فراغات الحب بمشاعر اخرى تنهك اصحابها حتى جعلتهم اجساد قابلة للاشتعال دائما.
تعالج المسرحية العديد من المواضيع النفسية وتأثيراتها المباشرة على بنية المجتمع، فغياب الحب يقدم لنا مجتمعات هشّة وغير متوازنة، يشرح كاتب النص تركيبة المجتمع التونسي من خلال عينات اختارها في مسرحيته، يسلط الضوء على ظاهرة عدم التفاهم بين الازواج بسبب الحب المبالغ فيه احيانا حدّ التشظي، ينقل للجمهور تأثير العادات على الطفل في تكوينه ليصبح كتلة من العقد وتصبح الجريمة الملاذ الاسهل.
وبطريقة ذكية اختار المخرج مساحة اللعب حديقة عمومية مفتوحة للجميع لتكون البوابة التي سينظر منها المتفرج لأوجاع المجتمع وحكاياته ويصبح المتفرج كالسيدة تماما تفتح نافذتها لتعايش من يمرون بالحديقة فتنصت لقصصهم وأسباب ألمهم، الحديقة شبه المظلمة تكون فضاء اللعب واختار ان تكون الاعمدة الكهربائية متنقلة تماما كمشاعر الشخصيات، لتشكل السينوغرافيا جزء مهم من البنية الدرامية للعمل وتكون الصورة البصرية جميلة وقابلة للثبات في ذهن المتلقي.
في المسرحية اعتمد المخرج على اضاءة خافتة فيتدرج الاصفر ليتماهى مع وجع الروح، تتحرك الاعمدة المستعملة للإضاءة وديكور لتنسجم مع ايقاع الحياة والشخصيات فهي قلقة ومضطربة طيلة الوقت، الديكور متحرك والإضاءة كذلك وكلاهما يلتحم في مساحة ما لينقلا قصص الحبّ غير المكتملة وفرحة اللقاء غير المنتظرة وللموسيقى دورها في اكتمال الصورة فوضاح العوني موسيقي له القدرة على قراءة القلوب وتحويلها الى نوتات مبهرة، في عمله ينقل مروان الميساوي تونسه ومجتمعه من وجهة نظره فنجدنا امام واقع متوتر وحكايات مربكة تقدم على خشبة المسرح لتكون مشهدية مسرحية تقنع المتفرج وتجبره على طرح السؤال.
الممثل جسد وروح ومعرفة يتقن التلاعب بالجمهور
جسد الممثل حمّال معان، صوته مساحة لاختزان الوجع والبوح بأجمل مشاعر الحب والخوف، صوت تنفسه اثناء اللعب يصنع موسيقى مميزة، فالممثل روح متمردة حالمة له القدرة العجيبة على التلون والتماهي مع الشخصية حدّ التناص مع وجعها وإجبار المتفرج ليقف امام وجعه وذاته، في مسرحية “واحد” لكل ممثل مساحته للعب، جميعهم تشارك النجاح واكتمال المشهدية، فالعمل كما لعبة “البازل” لكل ممثل دوره في اتمام الصورة النهائية لتقديم عمل يرشح بفكرة الوجع ويقدم الم الانتظار، عمل تبحث فيه الشخصيات عن الحب احساسا ومعنى وتنقله للجمهور عبر تلقائية الاداء والصدق في التناص مع الشخصية.
اختار مخرج النص مجموعة من الممثلين لكل منهم رصيده الابداعي الخاص وقدرته على الاقناع، الشخصية الرئيسية للعمل وحولها تدور الاحداث قدّمها ممثل متلوّن، ممثل محترف يعرف المسك بأفكار شخصياته والانتقال من لحظة الفرح الى الالم في ابتسامة ولحظات، أوس ابراهيم ممثل حرفي يلعب بتلقائية، ممثل نجح في تجاربه السابقة وكل شخصية يقدمها يلبسها من روحه فتكون مختلفة وصادقة، في “واحد” قدم أوس شخصية “ميلاد” العاشق، وأبدع أوس في ايصال فكرة الانتظار، ميلاد ينتظر حبيبته في نفس المكان ونفس التوقيت لمدة عام ونصف وأثناء الانتظار تعيش الشخصية العديد من الحكايات وتقابل اناس اخرين تتعرف عنهم من قرب فينصت لهم ويسمع منهم عن الحب والخوف والحياة والموت، امل اللقاء، لحظة رجفة القلب ووجيعة الفراق المنهكة للروح، تفاصيل نفسية صغيرة يلتقطها ممثل بارع ابدع في تشخيصها وتماهى معها في العرض.
اوس ابراهيم الممثل المتمكن من الياته التمثيلية والقادر على الرحيل بالمتفرج بعيدا الى الهناك الى اغوار النفس البشرية، ممثل يسرق الابتسامة ويرسمها من وسط عذابات الشخصية وآلامها النفسية، في “واحد” كان اوسم ممثلا واحدا، فردا ومتعددا في الوقت ذاته، عايش لحظات الخوف والانتظار ونقل للجمهور الم الفراق ووجيعة البعد.
تقابل شخصية “ميلاد” شخصية اخرى متناقضة معها هي “ميلود” قدمها محمد برهومي، ميلاد العاشق و”ميلود” يؤمن فقط بقوة الجسد، الاول يقبل على البكاء كلما شعر بالخوف والثاني يعيش بمعتقدات المجموعة “الراجل ما يبكيش” بين الشخصيتين المتناقضتين لعب جميل، نص شائك وأداء مربك، فكل منهما له مساحته الخاصة وأثناء اللقاء تصنعان الشخصيتين الاختلاف، بين اوس ابراهيم ومحمد برهومي طاقة لعب مميزة، لكل منهما القدرة على الإقناع، ومحمد برهومي ممثل محنّك، شخصية قليلة الكلام وكثيرة الفعل والحركة، اعطى الممثل لجسده فرصته ليتحدث ليبوح بكل ما اخفته الشخصية من وجع العنف والطفولة والاعتداءات على الحلم، فولد الشخصية مشوهة رغم ادعائها للقوة، تشوّه اتقنه برهومي وعرف الممثل كيف الدخول الى قلب المتلقي والتجوال في احاسيسه ليخبره ان التمثيل شغف والممثل البارع قادر على جعل المتلقي حزينا وان كان في اشد لحظات حياته سعادة.
في “واحد” صنع الممثلين عوالم متعددة، رحلوا بأجسادهم ونقلوا لمتلقي حيوات اخرى وأفكار متشظية، اجتمعوا في مساحة لعب واحدة ليقدموا عملا يرشح بالنقد ويبحث في النفس البشرية ويعيدون صياغتها مسرحيان لكل منهم طريقته في اللعب وميزهم ايمانهم بالمشروع والتلقائية امام الجمهور.